رمـــاد !

"إلى أين تذهب الأشياء عندما تُلقى في النار يا بابا؟"

سألني ابني الصغير ذا الأربع سنوات محدقاً في نيران مدفأة أبي العتيقة ،، وقد ألقينا فيها للتو اوراقا قديمة

"تتحول إلى رماد يا بني"
"ومن أين أتى ذلك (الرمات)؟"
"رماد ،، من الأشياء ذاتها ، تأكلها الناس وتتركها سوداء"
"هذا يعني أن النار شريرة؟!"
".. نعم ، يمكنك أن تقول هذا،، لكننا نستفيد من (شرها) ذاك كي نتدفأ ونطهو الطعام "

سكت بني محدقا بعينيه الناعستين في النار، إلى أن غالبه النوم،
ابتسمت ،، فتلك كانت الحيلة القديمة التي طالما استخدمها ابي معنا لينيمنا ،، وها أنذا أفعلها اليوم !

حملته إلى السرير بجانب أمه ، ثم عدت لأكمل تصنيف الاوراق

رحل أبي منذ خمسة أيام ،، وعدت إلى المنزل العتيق لأتمم إجراءات الجنازة وما يتبعها.. رحمك الله يا ابتاه،
لطالما ألححت عليه بترك المنزل القديم والعيش معنا ،، لكنه كان يأبى مشددا أنه لا يستطيع ترك منزله الذي تربى فيه أولا، ولا وطنه الذي عاش فيه ثانيا ،، فكيف بترك الاثنين؟

لطالما كان مرتبطا بالمكان ،، عندما توفيت أمي ، ترك غرفتهما وأغلقها.. لم يرض أن يبيع أو يتخلص من أشيائها ،، وتركها كما كانت في الغرفة،، ولم يفتحها أبداً.. كأنما يجمد الزمن بفعلته هذه، يخشى أنه لو غيره تضيع ذكرياته معها !

لا أدري لم - وأنا العملي - لم أسمح لزوجتي بتنظيف الغرفة ولا حتى فتحها في خضم حملة التنظيف التي شنتها على المنزل ، هناك شيء من "التابو" ارتبط لدي بهذه الغرفة.

والمدخنة،، تلك المدخنة العتيقة التي احب أبي الجلوس أمامها على مقعده الأثير الوثير، أتذكر حين كنا نلتف حولها في ليالي الشتاء القارصة.. متمسكين بأكواب القرفة باللبن التي طالما برعت أمي في صنعها ،، مستمعين لحكايا أبي .. وأمي جالسة بجواره تحيك شيئا ما مستمعة مبتسمة ...

مبتسمة ،، تلك الابتسامة التي كنت دائماً أتأنس بها.. وأوقن أن كل شيء حتماً على ما يرام،

كنا محاطين بالدفء.. نار المدخنة .. البخار الصاعد من الأكواب .. صوت أبي .. ابتسامة أمي .. وعالم الحكايا
دفء تجمعنا الذي كان ، ولم يعد...

ها هما أختاي تزوجتا وارتحلت كل واحدة مع زوجها تلك إلى أقصى الشمال وهذه إلى أقصى الشرق،
وأنا ،، أصبحت كالمسافر الذي لا يستقر على حال .. متمرد أنا على عالمي .. حتى أنني ما أن أنهيت دراستي الثانوية ، انتقلت للدراسة في العاصمة .. ولم أبت ليلة أخرى في البيت القديم منذ ذلك الحين

وما أن أنهيت دراستي الجامعية ، حتى ارتحلت بعيدا عن الوطن .. أنتقل من مكان لمكان ،، ومن عمل لعمل ،، ولا تلبث روحي أن تطمئن إلى الاستقرار أبدا،،

حتى عندما تزوجت وانجبت وظننت أنني استقررت أخيرا ،، وكان ذلك في استراليا . تلك القارة النائية المتفردة بنفسها . البلد الضخم الذي يجمع بين الحضارة والبادية. أبعد مكان عن موطني ! ،، وكأنني أهرب من ذلك البيت العتيق

إن روحي تبدو كما لو كانت طائرة ورقية كانت تمسكها يد حنون تترك لها حرية التحرك لكن لا تبتعد أبدا.. فما إن افلتت تلك اليد حتى طفقت الطائرة تطير وتهرب دون أن تجد أحدا يمسك بخيطها ثانية..

كم أفتقدك يا أماه.... وكم أنهكتك حقا معي يا ابتاه، أدرك هذا بعد أن صرت أباً ،، لكن سامحني .. لم أستطع أبدا أن أعد إلى هذا البيت .. وأشعر برغبة مقيته في تركه الآن ،، لكن لا أستطيع

"أراني في الخامسة عشر عائدا من المدرسة .. ممسكا بيد أختي الصغيرة التي طفقت تتقافز مسرعة لتجاري خطواتي الواسعة .. تلمحنا أمي وقد أنهت للتو نشر الغسيل، فتلوح لنا وهي نازلة،، تنكسر درجة من درجات السلم المتهالك الذي لم أفهم حتى اليوم كيف لم يتحمل قدمي أمي الرقيقتين ،، بل كيف تحملت أن تلقي بهاتين القدمين ! تلاحقت خطواتي كي أطمئن لى أمي التي تألمت في صمت ممسكة بقدمها النازفة.. أمي في الفراش مضمدة الساقين،، كنت لا أفارقها وكان أبي ينهرني كي أتركها لترتاح.. كان أبي عصبي وقلق بحق وكانت أمي تتضاءل وتهزل يوما بيوم.. ثم أصبح أبي لا يسمح لنا بالدخول إلا لماماً

عندئذ جاء ذلك اليوم.. لم أكن أريد الذهاب إلى المدرسة، كنت أريد أن أظل جانبها وجانبها فقط، لكنها رشتني بتلك الابتسامة التي كانت دوما نقطة ضعفي وانيستي.. وقالت في وهن "هيا يا عزيزي ، إنك ترفع معنوياتي وتشجعني على الشفاء بهذا" ليتني لم أطعها ،، ليتني عاندت وبقيت جانبها .. إذ عندما عدت، لم أجدها كما وعدتني،، لم أستطع أن أبق ثانية أخرى في هذا البيت

جريت بعيدا ،، بعيدا عن هذه الغرفة ،، بعيدا عن ذلك البيت ،، بعيدا عن هذا السلم المتهالك الذي كرهته بحق وكأنما قتل أمي !

ظللت أجري وأحري إلى أن أنهكت ،، ظللت هناك إلى أن خيم الظلام.. وجدت يدا تربت على كتفي ووجدتني انساق دون وعي مع ابي عودة إلى المنزل مقاوما رغبة شديدة في الهرب مجددا.. من يومها تمردت دوما على أبي وعلى هذا المنزل العتيق وعلى الحياة ذاتها ،، حتى عندما تزوجت لم يكن إلا لأن ابتسامتها ذكرتني بأمي ،، قليلا !

ثبت إلى رشدي وجدت وجهي مبتلا بدمع الذكريات، كم هو غريب أمر الذكريات ،، تعود بها طفلا وشابا كما لو كانت آلة زمن لكنها محدودة لا تعطينا المزيد، وقد يكون هذا ميزة.. لو كان متاحا المزيد لذهبت حلاوة ومرارة الذكريات وذهب معناها.. حسنا ،، فلأعود للتنقيب في الورق حتى أنتهي من هذا كله واهرب من ذاك المنزل وذكرياته مجددا

ما هذه الورقة؟

المريضة ..... تلك أمي ! ... هذه توضح كل شيء، لقد كانت أمي مريضة بالفعل فبل الحادثة،، وقد أذاها كثيرا نزف الدم حين جرحت ، وسرع من مضاعفاته

هذا يفسر اذا لم كان أبي يصر ألا ندخل إليها كي لا نتأذى (أو لا تتأذى بالاصح) لرؤيتنا لها تعاني،، هذا بعني أنها كانت ستموت بعد مدة طالت أو قصرت، وقد أسهم الحادث في تسريع وتيرة المرض

تبللت الورقة بقطرات لا أدري من أين أتت، وتغطت عيناي بغشاوة الذكريات، تلك الساعة التي كانت تغيبها أمي كل اسبوع، قساوة أبي وهو ينهرنا عن الدخول إلى أمي،

أخذت تلك الورقة وأنا أقاوم رغبة متزايدة في الهروب من ذلك المنزل، وألقيتها في النار جالسا على مقعد أبي أترقبها وهي تحترق، ذلك الوميض الأسود...

وميض أسود ؟!

بوف ! انطفأت النار فجأة، وعلى ضوء مصباح المكتب الخافت .. رأيت كتلة سوداء متكومة تنـــ تنهض ! من حيث كانت النيران،، ! ورأيتها تتشكل كما لو كانت ظلاً بشرياً

قمت مسرعاً فأضأت المصباح،، وظلت الكتلة كما هي ،، ظلا بشريا اسود لكنه مغطى بطبقة ترابية كما لو كانت رمادا، بينما ذلك الشيء يغطي بيديه ما يفترض انه وجهه اثر ذلك الضوء المفاجئ، واذ يزيح يديه من وجهه الذي كان بلا ملامح إلا من عينين .. تشتعلان ، أعني تشتعلان حقا لا مجازا كجمرتين !

وجدته يتفرس النظر في (أو هذا ما احسسته) بينما ابادله التفرس ! وسمعت صوتا لا اعلم من أين أتى يقول " أنت.. انسان؟!" اجبته "نعم ،، اظن هذا..."

ثم هززت رأسي لأفيق من هذا الهذيان لكنه ظل هناك ساكنا ثابتا كالمصيبة، سألته "من أنت؟ أو دعني أقل ما أنت؟ وكيف افهمك؟!"
أجاب " أما الأولى ،، فلن تفهمني .. أما الثانية فالأفكار لا تحتاج لترجمة!"
آه ، لهذا اسمع صوته من لامكان ! "شكلها ليلة فل" فكرت وسط هذا الجنون، قررت أنه ما باليد غير مسايرة ذلك الخبال.. مهلاً، أقال أنني لن أفهمه؟!

رد مباغتاً "بلى، فإنها تتجاوز خيالك أيها المتمرد.."
"جربني"
"أنـــا .... من عالم الرماد"

"هاه !"
"أرأيت ،، قلت إنك لن تفهمني"
"أتتوقغ مني أن اهتف صائحا. آه ذلك الذي يوجد فيه سور الرماد العظيم وبرج النيران الرمادية ... أوتمزح!"
"تملك حس دعابة على غير المتوقع منك أيها العملي!"
"وكيف اذا تعرف أنني عملي ومتمرد وما إلى ذلك من الصفات ؟"
"ببساطة ، كما تعرف أنك جوعان وعطشان"
"هذه إذن فراسة !"
"ربما ، إن كنتم تدعونها كذلك"

تأمل حوله برهة وقال "هذا هو عالمكم الأناني الظالم إذن !"
"ربما، ولكن لم تقول ذلك؟"
"بالتأكيد هو عالم أناني ذاك الذي يرسل أسوأ ما فيه إلى عالم آخر"

سكت لأستوعب فقال موضحاً "ألم تتسائل قط إلى أين تذهب الاشياء عندما تأكلها النيران؟"
ابتسمت وقد تذكرت أسئلة بني مجيباً "تتفحم وتتحول إلى رماد"
"هذا ما تتصوه عقليتكم الضيقة أيها البشري، بل إنها ترسل إلى عالمنا ،عالم الرماد، ونرسل نحن بضعاً من رمادنا كي لا يختل الميزان !"

حتماً لقد جننت، حتما...
"وكيف تعيشون هناك؟"
"نعيش كما تعيشون، غير أن عالمنا اسود ساخن، ومزدحم بما تتخلصون منه إلينا"
"وكيف تتعايشون مع تلك (الأهوال) التي نرسلها على حد قولك؟"
"لقد ولدنا وهي هناك وعشنا وهي هناك ، فاعتدناها.. لكن أنتم أيها البشر لن تتحملو دقيقة وسطها !"
"ما هي؟!"
"إنها تفوق خيالك، إنها الأسرار التي احرقت، أرواح المحاربين المحترقة، و اوراق وادلة الجرائم واشنعها تلك الخاصة بالحكومات الفاسدة ذات الشعب الغافل المتخاذل"

قلت محاولا الاستيعاب "هذا عن الأنانية،، وقد صدقت ، ماذا عن الظلم؟"
"كما كانت هناك أهوال اثقلنا بها عالمكم بأنانية، كانت هناك براءة تخلص منها ببرود وقسوة عكس وسيلته ،، النار!"
؟؟
"ضحايا حرائق الحروب،، القنابل،، من الأطفال والنساء، غير أن أرواحهم الغضة البريئة ذهبت إلى من هو أرحم بهم من أي أحد آخر ،، ربهم. بينما عذابهم أتى إلينا حاكياً ظلم عالمكم"

واستأنف قائلا " لكن أوتعلم؟ ربما هذا لإيجاد نوع من التوازن في عالمكم، فلا ندري ماذا سيكون لو لم توجد النار ! هناك مقدار ثابت من الخير والشر يجب ان يوجد وإلا اختل الميزان !"

سألت مذهولاً "وكيف جئت أنت ؟"
"لا أدري، فقط رأيت ذلك الوميض الأبيض الذي طالما نهونا عن لمسه، وجازفت بلمسه علّي أكتشف ما وراءه، وها أنا هنا !"
"حسناً ، أعرف كيف تعود هناك .. بالنار !"
"كيف لم يخطر ذلك على بالي !"
"حتى هومير يحني رأسه، لكن لا أعلم ما نتاج ذلك ، هل ستعود حيا أم ميتا؟"
"التجربة لن تضر، فمثلي لا يستطيع الحياة في هذا العالم"

احضرت الكبريت،، وتهيأ هو أمام المدخة
قال " هيا ، هات تلك الزهرة البرتقالية !"
"الوداع أيها الغريب"
وطفقت النيران تأكل جسده الأسود ،، وهو - يا للعجب - يبدو منتعشاً كما لو كانت مياه ! ودخل إلى المدخنة وتكوم فيها، وانا أرقبه جالسا على المقعد.. "الوداع أيها البشري"

وهنا استيقظت ! يبدو أنني غفوت وأنا أرقب النيران.. ذلك التأثير المنوم..
هذا كله كان حلما إذن، حسن هذا بالواقع منطقي.. أما زالت تلك الورقة تحترق.. ! لكنها تبدو كأنما تولد لا تحترق......
أمسكت ملقط المدخنة واخرجتها من بين النيران،، كتب عليها

" تذكر أن ما مضى صار رمادًا .. لا يطالنا بلهب !"